فصل: سبب نزول الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما تمني المثل فإن كان دينيًا كان حسنًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين» وإن كان دنيويًا فمن الناس من جوز ذلك، ومنهم من قال- وهم المحققون: لا يجوز ذلك، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون- قال معنى ذلك الإمام الرازي.
ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» فقال مشيرًا إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل: {للرجال نصيب} أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال: {مما اكتسبوا} أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح «جعل رزقي تحت ظل رمحي» «لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» {وللنساء نصيب مما اكتسبن} أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع، فالاشتغال به مجرد عناء.
ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره، لا بالكسب الذي جعله سببًا، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه، فكان التقدير: فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني؛ أمر بالإقبال- في الغنى وكل شيء- عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال: {وسئلوا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال: {من فضله} أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين، لأنه ربما كان سبب الفساد، بل يكون الطلب لما هو له صلاح، وأحسن الدعاء المأثور، وأحسنه {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء {كان بكل شيء عليمًا} أي فكان على كل شيء قديرًا، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة- كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن في النظم وجهين:
الأول: قال القفال رحمه الله: إنه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل النفس، أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات، وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له، فإنه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس، فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال.
الوجه الثاني: في كيفية النظم: هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس، من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهرًا عن الأفعال القبيحة، وهو الشريعة.
ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد، ليصير الباطن طاهرا عن الأخلاق الذميمة، وذلك هو الطريقة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
عطف على جملة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29].
والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين: أنّ التمنّي يحبّب للمُتمنّي الشيء الذي تمنّاه، فإذا أحبّه أتْبَعَه نفسه فرام تحصيله وافتُتن به، فربما بعثه ذلك الافتتان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده، وإلى الاستئثار به عن صاحب الحقّ فيغمض عينه عن ملاحظة الواجب من إعطاء الحقّ صاحبه وعن مناهي الشريعة التي تضمّنتها الجمل المعطوف عليها.
وقد أصبح هذا التمنّي في زماننا هذا فتنة لِطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة ممّا جرّ أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية فصاروا يتخبَّطون لطلب التساوي في كلّ شيء ويعانون إرهاقًا لم يحصّلوا منه على طائل.
فالنهي عن التمنّي وتطلّع النفوس إلى ما ليس لها جاء في هذه الآية عامّا، فكان كالتذييل للأحكام السابقة لسدّ ذرائعها وذرائع غيرها، فكان من جوامع الكلم في درء الشرور.
وقد كان التمنّي من أعظم وسائل الجرائم، فإنّه يفضي إلى الحسد، وقد كان أوّل جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد.
ولقد كثر ما انتبهت أموال، وقتلت نفوس للرغبة في بسطة رزق، أو فتنة نساء، أو نوال مُلك، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل.
والذي يبدو أنّ هذا التمنّي هو تمنّي أموال المثرين، وتمنّي أنصباء الوارثين، وتمنّي الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم، وتمنّي حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم.
وإنصاف النساء في مُهورهنّ، وترك مضارّتهنّ إلجاء إلى إسقاطها، ومن إعطاء أنصباء الورثة كما قسم الله لهم.
وكلّ ذلك من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق.
وقد أبدى القفّال مناسبة للعطف تندرج فيما ذكرته. اهـ.

.سبب نزول الآية:

.قال القرطبي:

روى الترمذي عن أُمّ سَلَمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث؛ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} قال مجاهد: وأنزل فيها {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35]، وكانت أمّ سلمة أول ظَعِينة قدِمت المدينة مهاجرة.
قال أبو عيسى؛ هذا حديث مرسَل، ورواه بعضهم عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد، مُرسَل أن أم سلمة قالت كذا.
وقال قتادة؛ كان الجاهلية لا يوّرثون النساء ولا الصبيان؛ فلما ورّثوا وجُعل للذّكر مثل حظ الأنثيين تمنت النساء أن لو جُعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال.
وقال الرجال؛ إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث؛ فنزلت، {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ}. اهـ.

.قال الفخر:

ذكروا في سبب النزول وجوها:
الأول: قال مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا، فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية، الثاني: قال السدي: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية: الثالث: لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأنّا ضعفاء، وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية.
الرابع: أتت واحدة من النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء.
فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا، فنزلت الآية.
فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس». اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

التمني عندنا عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون، ولهذا قلنا: إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا.
وقالت المعتزلة: النهي عن قول القائل: ليته وجد كذا، أو ليته لم يوجد كذا، وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا، بل لابد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} التّمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهُّف نوع منها يتعلق بالماضي؛ فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التّمني؛ لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل.
وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغِبطَةُ، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمنّ زوال حاله.
والجمهور على إجازة ذلك: مالك وغيره وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» فمعنى قوله؛ «لا حسد» أي لا غِبطة أعظم وأفضل من الغِبطة في هذين الأمرين.
وقد نبّه البخاري على هذا المعنى حيث بوَّب على هذا الحديث (باب الاغتباط في العلم والحكمة) قال المهلب: بيّن الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيّه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها.
قال ابن عطية: وأما التمنّي في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنّى المرء على الله من غير أن يقرن أُمنيته بشيء مما قدّمنا ذكره فذلك جائز؛ وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وَدِدت أن أَحْيَا ثم أُقتل».
قلت: هذا الحديث هو الذي صدّر به البخاري كتاب التمني في صحيحه، وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر؛ لأنه عليه السلام تمناها دون غيرها.
وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها، فرزقه الله إياها؛ لقوله: «ما زالت أُكْلَة خَيْبَرَ تُعادُّني الآن أَوان قطعتْ أَبْهَرِي». وفي الصحيح: «إن الشهيد يقال له تمنّ فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتلَ في سبيلك مرة أخرى».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون؛ وكان يقول: «واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني» وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعيه إلى الحسد والتباغض، والتمني المنهى عنه في الآية من هذا القبيل؛ فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر..
وسواء تمنيّت مع ذلك أن يعود إليك أو لا.
وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمّه الله تعالى بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] ويدخل فيه أيضًا خطبة الرجل على خِطبة أخيه وبيعه على بيعه؛ لأنّه داعية الحسد والمَقْت.
وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي، والصحيح جوازها على ما بينّا، وبالله توفيقنا.
وقال الضحاك: لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد، ألم تسمع الذين قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] إلى أن قال: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} [القصص: 82] حين خُسِف به وبداره وبأمواله {لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص: 82] وقال الكلبي: لا يتمنَّ الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمَه ولا دابته؛ ولكن ليقل؛ اللهم ارزقني مثله.
وهو كذلك في التوراة، وكذلك قوله في القرآن {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ}.
وقال ابن عباس: نهى الله سبحانه أن يتمنّى الرجل مال فلان وأهلَه، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله.
ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه ويصلُ به رَحِمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالًا فهو صادق النيّة يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء» الحديث... وقد تقدّم. خرّجه الترمذي وصححه.
وقال الحسن؛ لا يتمنّ أحدكُم المال وما يدريه لعلّ هلاكهَ فيه؛ وهذا إنما يصح إذا تمنّاه للدنيا، وأما إذا تمنّاه للخير فقد جوّزه الشرع، فيتمنّاه العبد ليصل به إلى الرّب، ويفعل الله ما يشاء. اهـ.